فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل.
الحجة الثالثة: الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «الحرام لا يحرم الحلال» أقصى ما في الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال، وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن، فههنا الحرام حرم الحلال، إلا أنا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به.
الحجة الرابعة: من جهة القياس أن نقول: المقتضى لجواز النكاح قائم، والفارق بين محل الإجماع وبين محل النزاع ظاهر، فوجب القول بالجواز، أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها، بجامع ما في النكاح من المصالح، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها، سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا.
بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة، فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه.
ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن، لأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية، السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية إبقاء ذلك الاتصال، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين، وهذا هو من قول الإمام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال: وطء حمدت به، ووطء رجمت به، فكيف يشتبهان؟ ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة.
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الإمام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه، ثم إنه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول، منطبقة على قواعد الفقه، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَا نَكَحَ} قيل: المراد بها النساء.
وقيل: العقد، أي نكاح آبائكم الفاسد المخالف لدين الله؛ إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصّل شروطه.
وهو اختيار الطبري.
فمِنْ متعلقة بـ {تَنْكِحُوا} و{مَا نَكَحَ} مصدر.
قال: ولو كان معناه ولا تنكحوا النساء اللآتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع ما من.
فالنهي على هذا إنما وقع على ألاّ ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد.
والأوّل أصح، وتكون ما بمعنى الذي ومن.
والدليل عليه أن الصحابة تلقّت الآية على ذلك المعنى؛ ومنه استدلت على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء.
وقد كان في العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي.
ألا ترى أن عمرو بن أُمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرًا وأبا مُعيط، وكان لها من أُمية أبو العِيصِ وغيره؛ فكان بنو أُمية إخوة مُسَافِر وأبي مُعِيط وأعمامهما.
ومن ذلك صفوان بن أُمية بن خَلَف تزوّج بعد أبيه امرأته فاخِتَة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أُمية قتل عنها.
ومن ذلك منظور بن زَبّان خلف على مُلَيْكَةَ بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زَبَّان بن سَيّار.
ومن ذلك حِصْن بن أبي قيس تزوّج امرأة أبيه كُبَيْشَة بنت مَعْن.
والأسود بن خلف تزوّج امرأة أبيه.
وقال الأشعث بن سَوّار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدّك ولدًا، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية.
وقد كان في العرب من تزوّج ابنته، وهو حاجب بن زُرَارَة تمَجَّس وفعل هذه الفعلة؛ ذكر ذلك النضر ابن شُمَيْل في كتاب المثالب.
فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{مّنَ النساء} في موضع الحال من ما أو من العائد عليها، وعند الطبري متعلقة بنكح، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين، وظاهره أنها بيانية، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذ المنكوحات لا يكن إلا نساءًا التعميم كأنه قيل: أي امرأة كانت، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وعدل عن أن يقال: لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها.
وذكر {من النساء} بيان لكون (ما) موصولة.
والنهي يتعلّق بالمستقبل، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي.
والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعًا، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} في سورة [البقرة 230]، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح، ولو لم يدخل بها، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء، وزعموا أنَّ قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثًا مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله: {تنكح} وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}.
وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية.
وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه. اهـ.

.قال الفخر:

ذكر المفسرون في قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وجوها:
الأول: وهو أحسنها: ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال: هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه، الثاني: قال صاحب الكشاف: هذا كما استثنى غير أن سيوفهم من قوله: (وَلاَ عيب فِيهِمْ) يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته، كما يقال: حتى يبيض القار، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
الثالث: أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل، والمعنى: لكن ما قد سلف فإن الله تجاوز عنه.
والرابع: إلا هاهنا بمعنى بعد، كقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى.
الخامس: قال بعضهم: معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه، قالوا: إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن.
وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، وقيل: إن هذا خطأ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه، وإن كان في الجاهلية.
روى البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله. اهـ.